عمان – “بركة البيت.. نوارة حياتنا.. جميع الكلمات لا توفيها حقها..”، بهذه الكلمات عبرت نورا حماد عن محبتها لوالدتها السبعينية، وحرصها المتواصل على برها ونيل رضاها، ورغم ذلك، بات ارضاؤها من سابع المستحيل في الأونة الأخيرة.. ولا تعلم أسباب حالة “الكآبة” التي تسيطر عليها.
تصف حماد سلوكيات والدتها بالغريبة، “تشعر دائما بالإنزعاج وضيق الصدر.. لا تتفاعل مع أحد إلا بالصراخ.. تأخذ موقفا وتحزن لأي أمر.. واكتشفنا فيما بعد بأنها تعرضت لعدة جلطات دماغية صغيرة، لكنها لم تؤثر على حركتها، وأخبرنا الطبيب بأن هذه الجلطات تؤثر على سلوكيات وردود فعل المريض فيما بعد.
أما في حالة تسنيم عيسى، والتي لاحظت على والدها الذي قارب على الثمانين عاما إصابته بحالة “الكآبة” وعدم الرغبة في تناول الطعام، أو حتى الحديث مع أولاده أو اللعب مع أحفاده، بعد أن كان يمضي ساعات طوال في اللعب معهم!
وبعد إجراء العديد من الفحوصات الطبية، تبين بأنه لا يعاني من مرض جديد، قد يكون السبب في ذلك، ولم يكن من الابنة سوى متابعة حالة والدها عن قرب، لمعرفة الأسباب في سلوكياته الغريبة ومزاجه المتقلب.. حتى أدركت أنه تأثر جدا بعد مرض أحد أصدقائه ووفاته.
اجتمعت عيسى بأخوانها وأخواتها.. وأوضحت لهم استنتاجتها وتحليلاتها حول أسباب “كآبة” والدهم، وعليه اتفق الاخوة على ترتيب رحلة ترفيهية للوالد.. يقضون أوقاتا جميلة تحسن مزاجه، واتفقوا بأن يحرصوا على عدم سماعه أي خبر سيئ يمكن أن يؤثر على حالته النفسية سلبا، ويشعر نتيجته بالخوف والحزن من فقدان الأحباب.
وهذا ما اتبعه علي مع والده الستيني، أيضا، خصوصا بعد فقدان الوالدة في العام الماضي، كما أن والده يعاني من مرض الكلى، ولديه مواعيد “لغسيل الكلى” بشكل مستمر، وهو على هذا الحال منذ عشر سنوات وساءت حالته الصحية كثيرا بعد فقدانه زوجته، التي كانت بصحة جيدة، مما زاد وجعه وأحزانه.
أما تيسير وزوجته فاطمة حيث اقتربا من السبعين عاما، حالهما انقلب رأسا على عقب.. استبدل الفرح والسعادة بالحزن والوحدة بعد زواج آخر الابناء مؤخرا.. تكاد عقارب الساعة تقف في اليوم.. بحيث يمضيان في التبضع ومتابعة أخبار الصحف.. وشرب القهوة، وتحضير مائدة الطعام التي باتت صغيرة جدا.. لا طعم ولا نكهة بدون اجتماع الأبناء عليها، بحسب الحاج تيسير.
ينتظر تيسير وزوجته بفارغ الصبر زيارة أحد أبنائهما أو بناتهما.. وأحفادهم المتقطعة، خصوصا أنهما يسكنان في مدينة إربد، بينما يعمل ويقطن الأبناء والأحفاد في العاصمة. ويذكر أنه فكر كثيرا بتغيير مكان سكنه هو وزوجته، إلا أنه وجد أن زوجته منتمية أكثر لبيتها الذي عاشت فيه أكثر من خمسة وثلاثين عاما، وحديقتها التي تعتني بها باستمرار، وتقضي أوقات النهار في العناية بها وري مزروعتها وتنقيبها.
يشير اختصاصي علم الاجتماع د. محمد جريبيع أن ما يعيشه كبار السن وكثرة الخوف والهلع من الفقد أو التفكير بأبنائهم الذين تزوجوا.. وفراغ المنزل عليهما بـ “الأمر الطبيعي”، إذ أن الإنسان فردا ينتمي للعيش مع الجماعة، ويكره العيش وحيدا.
ويبين أن كبار السن في المجتمعات العربية وتحديدا في الأردن لا يعيشون في ظروف مرفهة صحيا واجتماعيا وماليا، ففكرة التقاعد وعدم العطاء حتى لآخر يوم في حياة الرجل الأردني من الممكن أن تكون مدمرة اجتماعيا ونفسيا له.
ويضيف، كذلك قلة توفر التأمين الصحي لكبار السن وتعرضهم للأمراض جميعها ظروف تساعد لأن تصل الكآبة الى مستويات عالية وصعوبة التخلص منها.
أما عن الأسباب النفسية وراء الكآبة فيوضحها اختصاصي علم النفس د. موسى مطارنة بقوله، ما يتعرض له الفرد في حياته الاجتماعية والصحية له أثر نفسي كبير على حياته.
ويتحدث عن عدة حالات قابلها من كبار السن تعرضوا للاهمال من أبنائهم، إذ لا يتفقدون أحوالهم.. لا يزورنهم باستمرار.. ويكتفون بالإطمئنان عليهم عبر الهاتف.. وأحيانا لا.. مما يجعلهم يشعرون بالوحدة، وأحيانا كبار السن يدعون المرض حتى يتمكنوا من رؤية أبنائهم.
وآخرون باتت قواهم تخاونهم فهم بحاجة لرعاية صحية معينة، بحسب مطارنة، فكان الحل للأبناء في ظل الظروف الحياتية السريعة أن يجلس الأب أو الأم في غرفة ويعتني به عامل مساعد، مما يشعر الأب أو الأم بالكسر، خصوصا بعد التربية والعناية لأبنائهم طوال السنوات الماضية، تتحول رعايتهم للمساعدين بعيدا عن اهتمام وعطف الأبناء.
ويؤكد مطارنة أن الكثير من كبار السن يشعرون بنقص في قيمتهم، وتحديدا بعد وصولهم سن التقاعد، إذ يستذكرون أنفسهم بالأشخاص المنتجين والراعين لعائلاتهم وفجأة كل ذلك يختفي، حتى أن بعض الأولاد يبدأون يتدخلون في حياة آبائهم وأمهاتهم، معتقدين أن الدفع المادي والرعاية المادية من الممكن أن تجعلهم يتجاوزون حدود الأدب. ومن الأسباب الأخرى التي تؤثر نفسيا في حياة كبار السن فقد الأصدقاء بالوفاة أو بتغيير الاهتمامات، والملل من طول وقت الفراغ.. وعدم الانشغال بأي عمل أو هوايات خصوصا إهمال الهوايات والأنشطة التي تمنحهم السعادة للإنشغال بالعمل فى الفترات السابقة. ويلفت إلى أن بعض الأمراض التي يعاني منها كبار السن مثل: القلب والسكر والضغط وغيرها، تشعرهم بالضعف وبالاحتياج المتزايد للآخرين، كما أن بعض الأدوية المستخدمة لعلاج هذه الأمراض قد تؤدي للشعور بالإكتئاب. أما بالنسبة للأعراض، فتظهر عليهم الكآبة والضيق والميل إلى العزلة ورفض الكلام وقلة الشهية قد تصل إلى رفض الطعام، وعدم التركيز والانتباه، والشعور بالإجهاد الشديد، وانخفاض في الوزن.. وأحيانا تنتابهم أفكار تسلطية متعلقة بالموت والانتحار، وفق مطارنة.