عمان- يأبى كبار السن على مر السنين إلا أن تكون لهم طقوسهم الخاصة التي يعتادون عليها وتصبح موضع اهتمام بالنسبة لهم وإحساس بالأمان يريحهم ويطمئن مخاوفهم. فهم باحتفاظهم لبعض الأشياء والعادات يقدمون عربون وفاء لكل لحظة عاشوها وأثرت في حياتهم.
تمسكهم ذلك ينبع من إحساسهم العميق تجاه الأشياء التي تصنع لهم إرثا كبيرا من الذكريات يوقظهم الحنين إليها كلما راودهم طيف الماضي وشعروا بالحاجة إلى استحضار مشاعر أنيقة دافئة لن تتكرر تثبت وفاءهم، الذي بات اليوم موضع تساؤل وحيرة في نفوس الشباب.
وأهم هذه العادات الاحتفاظ ببعض ملابسهم القديمة للمناسبات الخاصة، الاهتمام بآراء الآخرين، عدم مدح الأطفال، ارتداء سترة حتى وإن لم يكن الجو باردا، ترقب حالة الطقس، استخدام الهواتف الأرضية القديمة، الاستيقاظ المبكر رغم عدم اضطرارهم لذلك، الاستمتاع بالقيلولة، التحدث عن ذكرياتهم وطفولتهم المثالية، والإبقاء على عادة ارتداء ساعة اليد.. كل هذه أمور تثير الفضول لدى الأجيال الجديدة وتجعلهم يبحثون عن تفسيرات مقنعة ومنطقية لأسباب تمسك كبار السن بتلك العادات.
العشريني أنس خالد يبدي دائما دهشته من بعض العادات التي يتمسك بها جده، ويأبى التخلي عنها رغم مرور السنين. يقول إنه أمر غريب جدا أن يصر الشخص على القيام بالتصرفات نفسها كل يوم من دون أن يشعر بالملل أو بالحاجة لفعل أشياء أخرى جديدة.
وهذا تماما ما لاحظه على جده، فهو لا يفهم لماذا يحرص جده يوميا على الاستيقاظ مبكرا، تفرغه طوال الوقت وعدم التزامه بعمل معين يجعله يستنكر تلك العادة. موضحا أنه ورغم علاقته المتينة بجده وقربه الشديد منه ورغبته في أن يشبهه في إنسانيته وأخلاقه، إلا أنه ما يزال يجهل السبب وراء إصرار جده على الاحتفاظ بالهاتف الأرضي ورفضه الاستغناء عنه رغم توفر الكثير من الأجهزة الحديثة وإمكانية استخدامه لها ومساعدتهم جميعا على الوصول له من خلالها مختصرين الوقت والجهد على أنفسهم، كما يمكنهم ذلك من الاطمئنان عليه متى أرادوا. إضافة إلى أن لديه عادة أخرى يتمسك بها بقوة وينزعج جدا إذا حاول أحد ثنيه عنها، وهي الإبقاء على كل الأشياء القديمة، وعدم رميها، فمجرد فكرة التخلص منها تشعره بالحزن والضيق الشديدين.
أبو أكرم هو الآخر تستوقفه بعض الطقوس التي يصر والده على الاحتفاظ بها.. تساؤلات كثيرة يطرحها على نفسه لكن دون أن يجد إجابة تقنعه. يقول إن حب والده الشديد لارتداء ساعة اليد دائما تحول إلى عادة باتت تتعبه، وذلك لأنه يقلق كثيرا كلما تعطلت واحتاجت للإصلاح، لافتا إلى أن والده يدخل في حالة عصبية شديدة بدأت تضايقه هو شخصيا لكونه يخاف أن يخسر ساعته التي يرتبط بها نفسيا وتعني له كثيرا.
ويضيف “كما أن لديه هوسا كبيرا في معرفة حالة الطقس واطلاعه على التحديثات أولا بأول دون أن يكون هناك حاجة لذلك، فهو طوال الوقت في البيت لا يخرج إلا للضرورة، الأمر الذي يجعل اهتمامه المبالغ فيه سببا لحيرة أبنائه وأحفاده”.
وحول ذلك، يقول الاختصاصي الاجتماعي الأسري مفيد سرحان “إن العادات والتقاليد جزء من الموروث الثقافي والاجتماعي للمجتمع، ولكل مجتمع عادات وتقاليد يتميز بها عن غيره، وحتى داخل المجتمع الواحد تجد فروقات في بعض العادات، ويعود السبب في ذلك لأسباب منها اختلاف الثقافة والبيئة والمنطقة الجغرافية والمستوى الاقتصادي والسن؛ حيث إننا نجد أن هنالك اختلافات واضحة بين عادات كبار السن والشباب وهذه طبيعة الحياة، ولذلك يحدث تطور في العادات حتى داخل المجتمع الواحد مع مرور الزمن وتبقى بعض العادات تتناقلها الأجيال لتصبح جزءا من التراث والموروث الثقافي والاجتماعي وإن كانت ممارستها محددة”.
وكبار السن في مجتمعنا لهم ميزات وخصائص ويمارسون بعض التقاليد اليومية أو الموسمية التي ربما يستغربها الأبناء والأحفاد ولا يمارسونها، ربما لأنهم لا يشعرون أنهم بحاجة إليها أو أن ما لديهم أفضل منها ويناسب جيلهم، ما يحدث تبايناً في الممارسات وأحياناً إنكاراً واستغراباً من الكبار لتصرفات الأصغر منهم سناً والعكس كذلك.
ويتابع “فغالبية كبار السن اعتادوا على الاستيقاظ مبكراً لصلاة الفجر وعدم الرجوع إلى النوم؛ حيث يبدأون بممارسة طقوسهم مبكراً سواء بشرب القهوة أو الشاي أو تناول طعام الفطور أو الذهاب للتسوق مبكراً أو إنجاز ما عليهم من واجبات، وهذا مرتبط في أصله بطبيعة حياتهم في فترة الطفولة والشباب، حيث النشاط والجد والعمل وعدم السهر لساعات متأخرة، لأسباب منها محدودية وسائل الترفيه والتسلية سابقاً والحاجة للذهاب للعمل مبكرا”.
وكبار السن يحرصون في الأغلب على تخصيص ملابس معينة للمناسبات لا تستخدم إلا في أوقات محددة، وربما بعض هذه الملابس عمرها أعوام عدة وما يزالون يحافظون عليها جديدة ويفتخرون بها وهم يتذكرون المناسبات التي ارتدوها خلالها، فهي تمثل لهم جزءا من التاريخ والذاكرة.
وساعة اليد شيء أساسي لا يمكن الاستغناء عنه سواء داخل المنزل أو خارجه، وهي بالعادة عمرها عشرات الأعوام وما يزالون يذكرون قصة اقتنائها وما تزال تحتفظ برونقها وكأنها جديدة، فهي لا تترك في أي مكان حتى لا تتعرض للكسر، فالاهتمام والحرص والمحافظة على المقتنيات ميزة كبار السن، وهم يستغربون كثيراً من تصرفات الأبناء والأحفاد التي لا تعطي قيمة للأشياء، فاستمرار تغير الأدوات والمقتنيات أساسي لديهم، وهم حريصون على متابعة أحدث التقليعات والموديلات ويعدون ذلك مقدماً على المأكل والمشرب.
ويرى سرحان أن الاحتفاظ بالأغراض القديمة من ملابس وأثاث وغيرها قيمة رئيسية لدى كبار السن، وهي وإن كانت قديمة من حيث المدة الزمنية لكنها تضاهي أو تتفوق على ما يتم شراؤه حديثاً من حيث الجودة والمتانة والبساطة، يفاخرون بأن لديهم بعض الحاجيات التي ورثوها عن آبائهم يحتفظون بها حتى وإن لم يستخدموها، فالقديم مقدس لديهم، يذكرهم بالماضي حتى وإن كانوا لا ينكرون صعوبته إلا أنهم يؤكدون أن فيه راحة نفسية وطمأنينة أكثر من هذه الأيام، ويعبرون عن ذلك بأن راحة البال أهم من المال.
“كبار السن من النساء والرجال يشتركون في هذه الخصائص؛ فالمرأة تفتخر بأنها تحتفظ بالثوب الفلاحي الذي كان سائداً وإن اختلف شكله من منطقة إلى أخرى فهو يرمز إلى العزة والجذور. حتى أصبحت بعض الفتيات والنساء يستخدمن مثل هذا اللباس في المناسبات. فالمحافظة على الموروث ونقله إلى الأجيال مسؤولية وواجب الجميع وهو موضع فخر واعتزاز، فالإنسان الواعي المدرك يفتخر بتاريخه وتراثه حتى وإن بدا بسيطا وغريبا عند البعض، والإنسان بلا تاريخ يكون ضعيفاً ونحن أمة ذات تاريخ عريق يجب أن نحافظ عليه ونفتخر به”، وفق سرحان، والروزنامة التي تحتوي على أوراق بعدد أيام العام تعلق في مكان مناسب من البيت ويتابع الكبير إزالة الورقة اليومية في الصباح، وبعضهم يحب أن يحتفظ بها في جيبه طوال اليوم، فهو ينظر إليها مرات عدة في اليوم ليتأكد من مواعيد الصلاة وإن كانت محفوظة في ذهنه.
ويتابع أن الوصف والصور القديمة ما تزال محفوظة في مكان آمن ويتم إخراجها في مناسبات واجتماعات العائلة تحت إشراف كبير السن وإعادتها إلى مكانها. وكم يكون كبير السن فرحاً عندما يكون أحد ممن هم في عمره من سكان الحي؛ حيث يحرص على المجالسة اليومية، وأمام البيت هو المكان المفضل حيث الهواء ورؤية المارة والاستمتاع بالكلام معهم.
ويفضل الأجداد الأكلات القديمة ويوصون بها، فهي الغذاء المفيد الذي حفظ لهم الصحة وجعلهم بعيدين عن كثير من الأمراض وما يزالون يحافظون على نشاطهم وحيوتهم، فطعام المنزل هو المفضل مهما كانت نوعيته على الأبناء والأحفاد الاهتمام بعادات الآباء وتسهيل ممارستهم لها، بل وتعلم الدروس منها، فثقافة الاستهلاك السائدة تركت آثارها السلبية على الجميع من فقر ومشكلات اجتماعية والتنكر للماضي يفقدنا الهوية.
المصدر : الغد